تمويل العمل الثقافي في مصر: الميزانيات



"بالجهود الذاتية" هكذا بدأ تمويل العمل فى مصر ويكفيهم مع صدور العمل المكسب الثقافى وتعويض ولو جزء من رأس المال، لم تؤدى هذه الطريقة والتى كانت تعتمد بالأساس على العمل التطوعى وفريق عمل صغير الى نتائج ملموسة، وإن كانت بعض التجارب قدمت نتائج مؤثرة وقوية ولها فضل الريادة. فى ذلك الوقت كان العمل الثقافى  يحمل بين طياته رائحة شك وتشكك وريبة. فقد كان أى "منتج" يخرج من خارج سياق المؤسسة الثقافية الرسمية، يثير التساؤلات من حوله. بعدها فى بداية الألفية الجديدة، بدأ ظهور مصطلح آخر هو " مستقل"، "فرقة مستقلة"، "مجلة مستقلة"، مع بدء تدفق الدعم الأجنبي للمجال الثقافى والذى لم يكن معتادا من قبل. فى البداية وقعت كثير من الجهات المانحة فى فخ النصب وعدم جدوى أو تأثير المردود الثقافى فى مقابل المنح المقدمة، ولكن التدفق الأجنبى لم يتوقف وأبتكر قنوات وأساليب جديدة لصب الدعم فى الأماكن الصحيحة ومراقبة عملها، فظهرت مؤسسات مثل "التاون هاوس" و"المورد الثقافى".. لم تتدخل تلك المؤسسات فى صلب العمل الثقافى ولكن تدخلت فى طريقة عمله والذى بالأساس كان يتسم بالعشوائية. هذه الطريقة احدث طفرة فى العمل الثقافى ولكنه لم يكن كافيا لتلبية طموح جيل جديد من شباب العاملين فى المجال الثقافى المستقل. بدأ الاتجاه لإعداد مديرين ثقافيين ليتكفلوا بصنع مؤسساتهم الثقافية المستقلة وهو قائم على علم "الإدارة الثقافية" المنتشر فى العالم أجمع.  ويقول الشاعر السكندري علاء خالد[1] صاحب مجلة "أمكنة" المستقلة : {كل هذا كان يحدث تحت سمع وبصر ثقافة ضعيفة أختلط فيها الحابل بالنابل منذ زمن، ولم تعد بها أى أشكال للمقاومة أو حتى للجدل مع أى مستجد حديث، ولم يعد لديها أى طموح لخلق " ثقافة بديلة". وبمرور الوقت اختفى مصطلح "بالجهود الذاتية" الذى كان عبارة عن تضحية شخصية من مجموعة من الأفراد}.
الكل يعمل فى ظروف غاية فى الصعوبة، الدولة التى تحاول أن تسيطر على المجتمع المدنى أيام مبارك، الأن تحاربه،  والاتهامات بالتخوين والعمالة تملئ أروقة المؤسسات الرسمية، وهذه الصور هى بالأساس التى ساعدت على صنع "ثقافة ضعيفة يختلط فيها الحابل بالنابل" كما يصفها علاء خالد. وعموما سأتكلم هنا عن المؤسسات التى تتلقى دعم وتمويلات والتى تعمل فى المجال الثقافى فقط.

 
فى ظل ترهل المؤسسات الثقافية الرسمية وعجزها عن تقديم أى خدمة أو حقوق ثقافية تليق بالمواطن، ظهر فراغ يستدعى من يملأه، حاول فنانون ومثقفون ملئه بالجهود الذاتية ولكنه لم يكن كاف وظهرت الحاجه لبناء مؤسسات ثقافية تقوم بدور غائب وهو ما يستدعى أولا تأهيل مديرين ثقافيين من النشطاء فى المجال الثقافى على نظم وعلوم الإدارة الثقافية.
نشأت مؤسسات ثقافية تتلقى تمويلات أجنبية ومحلية ولديها استعداد للتعاون مع المؤسسة الثقافية الرسمية والحكومية وتنفذ برنامجها الثقافى الخاص بناء على رؤية وأهداف مؤسسيها مثل "درب 17/18" و"أرت اللوا".
أول شئ يجب أن تحرص عليه أثناء إنشائك مؤسستك الثقافية هو الشفافية والمحاسبة، فيجب أن يكون موقعك الإلكتروني حريص على نشر كافة مصادر تمويلك وقيمتها وتواريخ حصولك عليها ويجب أن تكون القائمة محدثة بشكل مناسب ويجب أن تقدم كشف حساب لجمهورك وعملائك قبل الجهات المانحة.
 فاحتفالية "الفن ميدان" وهى مؤسسة تحت التأسيس وتعمل منذ أبريل 2011 فى السبت الأول من كل شهر، على سبيل المثال: تحرص على نشر كشف حساب تتداوله الصحف شهريا يبين كم التبرعات والمنح (حتى الأن لم يتلقى تمويلات خارجية) وكافة التفاصيل الفنية الخاصة بالمصاريف والمعدات والأجور وتنشر وتعلن عن دعم المؤسسة الرسمية فى حينه. لن ندعى مثالية مؤسسة الفن ميدان فهناك مشاكل فى التنظيم والعمل ولكنا تلزم نفسها بنظام محاسبي بسيط ويضع منظمو ومؤسسو الفن الميدان الذين يتولون تنظيم الفاعلية فى القاهرة بميدان عابدين مجموعة من الضوابط لتلقى الدعم والتبرعات لفرق العمل التى تعمل على إقامة الفاعلية فى المحافظات وهى أيضا منشورة. عامل الشفافية فى ميزانية الفن ميدان يساعد ويزيد ثقة المتبرعين والمانحين.
يحرص المديرين الثقافين على تنوع مصادر التمويل والاعتبار للعمل الجماعى والتطوعي لتيسير العمل الثقافى وهو ما يضمن له قدر من الاستقلالية وضمان استمراره وتطوره بالإضافة للتشبيك بين المؤسسات العاملة فى نفس المجال وهو ما يضفى قوه ودعم. معظم المؤسسات الثقافية فى العالم أجمع تنتهج منهج الشفافية والمحاسبة فى حين نجد أن المؤسسات الثقافية الرسمية تتسم ميزانياتها بالغموض والالتفاف حول كشوف الحسابات، والأدهى عدم التنسيق بينهم، ونظرة واحدة على مشاريع النشر فى الوزارة تبين غياب التنسيق والتشبيك بين مؤسسات الوزارة الواحدة.
فى دراسة[2] مقارنة عن بعض جوانب السياسات الثقافية في الجزائر، وتونس، والمغرب ومصر (سنتناول الجزء الخاص بميزانية الثقافة)،  تقع مصر فى أسفل الدول التى لا تفصح عن ميزانية الثقافية لديها. رغم ما يقال؛ "الحال من بعضه" فى تردى فى حال تمويل الثقافة فى دول العالم العربى كله، وبالرغم من أن مصر تحصل فى  الثقافة من ميزانية الدولة على أضعف ميزانية. ولمعالجة هذا الضعف في الموارد، أنشأت الوزارة صندوق التنمية الثقافية الذي يُحصّل ٪10 من إيرادات لجنة الأبنية الأثرية (والتى بدورها اختفت بعد فصل المجلس الأعلى للأثار عن وزارة الثقافة بعد ثورة 25 يناير). تسمح هذه النسبة بدعم المشروعات الثقافية(خارج أنشطة الوزارة)، حتى وإن ظل ذلك في الحقيقة غير كافٍ. بدايه: ميزانية الثقافة فى مصر ليست منفصلة ففى الموازنة العاملة للدولة تقع تحت باب واحد يضم ثلاث وزارات، (الشباب والثقافة، الشؤون الدينية) مما يجعل من الصعب معرفة النصيب الصحيح المخصص للثقافة. ثانيا: الإحصاء الرسمي الوحيد الذي تمكّنّت الدراسة من الحصول عليه هو إحصاء عام 2011 (لا يوجد لدينا أي إحصاء دقيق ورسمي للميزانية المخصصة للثقافة قبل الثورة؛ في الواقع كانت الضبابية تامة ) حيث كانت ميزانية الثقافة تصل إلى حوالي 147 مليون دولار، أي ٪5,6 من الـ2612,9 مليون دولار المخصصة لباب "الشباب، والثقافة والشؤون الدينية" طبقًا لقانون المالية لعام 2011. ثالثا: حقيقة أن تشغيل الإدارة، خصوصًا أجور الموظفين والمعدات تلتهم أكثر من 80% من ميزانية الوزارة تثبتها الدراسة المنشورة على موقع المورد الثقافى؛ فتجدر الإشارة إلى أنه في 2011، خصص حوالي ٪58 من ميزانية الثقافة (أي 93,7 مليون دولار) لدفع أجور 32041 موظفًا (للموظفين فقط) يعملون في الهيئات المختلفة التابعة لوزارة الثقافة، فمثلا الهيئة العامة لقصور الثقافة تحصل على ٪23,7 من الميزانية القومية المخصصة للثقافة، تليها الإدارة المركزية لصندوق التنمية الثقافية بـ٪13,9. طبقا لجدول منشور فى الدراسة.
تبين تلك النقاط حول تمويل العمل الثقافى الحكومى فى مصر الى غياب الشفافية والضبابية فى حين تجبر الجهات المانحة الأجنبية المؤسسات الثقافية المستقلة تقديم كشوف حسابات والإعلان عنها لاستكمال مشوارها فى الدعم. وهو ما يمثل عائق فى التعاون مع المؤسسات الثقافية المستقلة بالإضافة لعائق لصعوبة محاسبة هذه الهيئات على دورها الثقافى.
فالأساس الذى يمكنك من سؤال على أى مردود ثقافى تقدمة مؤسسة ما (مستقلة أو حكومية)؟ هو حجم تمويلك وكيف تم صرفة؟
نشر بمجلة الدوحة العدد 83



[1] على صفحتة بموقع التواصل الأجتماعى الفيسبوك
[2] دراسة مقارنة عن بعض جوانب السياسات الثقافية في الجزائر، وتونس، والمغرب ومصر ميزانية الثقافة | اللامركزية | التبادل الثقافي بقلم: عمار كساب ودنيا بن سليمان الصادرة عن كراسات سياسات ثقافية الصادرة عن المورد الثقافى والمنشورة على موقعة

No comments: