استكمالا للمقال السابق حول تأريخ لابد منه لوزارة الثقافة، نرجع لبداية
إنشاء الوزارة وعلاقتها بصنع سياسة ثقافية لمصر كتمهيد لا غنى معنه لبيان معنى
التدجين الذى مارسته المؤسسات الثقافية الحكومية على المثقفين.
لعلى أستهل أن البحث عن معنى تدجين المثقفين أمر صعب، المعنى نفسة هلامي
فيصعب الإمساك بتلابيبه، ولكنى عبر مجموعة من التواريخ وأساليب المؤسسة الرسمية
واستراتيجياتها سأبين أن "حظيرة المثقفين المتمثلة فى وزارة الثقافة
المصرية" ليست بعيدة عن محاولاتها صنح مثقف داجن ولائه للمؤسسة الرسمية.
بدأ تأسيس وزارة للثقافة فى مصر تحت مسمى وزارة الأرشاد القومى مع قيام
الضباط الأحرار بحركتهم المباركة، واستقلت للثقافة مع تولى ثروت عكاشة فى نوفمبر
1958 وحينها أصبح لمصر شرف إنشاء أول وزارة للثقافة فى الوطن العربي وأفريقيا، والثامنة
على مستوى العالم، وتأسست بها مؤسسات ثقافية اعتمادا على أرث ثقافى من الحقبة
الملكية.
والجدير بالذكر أن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب تأسس سنه 1956
تحت رئاسة يوسف السباعى (وهو أحد الضباط الأحرار مثل ثروت عكاشة). ارتبطت الثقافة
(كمؤسَّسات وسياسات) منذ ذلك الوقت بمصر ارتباطًا وثيقًا بنظام الحكم العسكرى، الذى
سعى للسيطرة على المؤسَّسات كافة بما فيها المؤسَّسات الثقافية، والصحف ودور النشر
التى تم تأميمها. أخذ النظام الجديد (حركة الضباط الأحرار التى قامت بالانقلاب على
الملكية) على عاتقه خلق حاله دعائية باستخدام الفن والثقافة عن طريق الإرشاد القومى.
تلونت السياسة الثقافية فى مصر منذ ذلك الحين بأهواء حكامها ومصالحهم بدون
اهتمام ولو ضعيف بالثقافة، كمفهوم ومعنى، فى ذاتها. الاشتراكية - التى تحولت الى
رأسمالية الدولة، فى الاقتصاد وهو ما أنعكس بشكل ما على سياسة ثقافية موجهه لمصر -
هى السمة الواضحة لتلك الحقبة (حكم جمال عبد الناصر) أما انفتاح السادات فقد أدى لارتباك
ثقافى معقد خصوصا مع زمن اللاسلم واللاحرب ومعاهدة كامب ديفيد والتطبيع (القسرى بعد
النصر) خصوصا أنه كان يهدف الى القضاء على مركزية الدولة وهو أحد الأثار الجانبية
للمشروع الناصرى، وتشجيع التيار الإسلامى كوسيلة للقضاء على الأفكار اليسارية وتنامى
التيارات الإسلامية الجهادية المسلحة، مما أدى الى تدهور ولأوضاع قصور الثقافة، والمتاحف،
والمسارح. أما فى العصر محمد حسنى مبارك فبداية من سياسة "لم الشمل"
التى تحولت الى سياسة الحظيرة الى الخصخصة والليبرالية الجديدة، التى حوَّلت الثقافة
والتعليم وجميع الخدمات الأساسية إلى سلع مسعَّرة، مما أدى الى ازدواجية الرؤى، التى
تتأرجح بين التزمت والتخلف من جهة، والتحرر السطحى من جهة أخرى.
بعد إنشاء وزارة الثقافة وضع أربعة من وزراء الثقافة سياسة ثقافية منشورة، ثروث عكاشة في عام 1968 باسم السياسة الثقافية، وبدر الدين أبو غازي في عام 1971 باسم برنامج العمل الثقافي، كما وضع عبد المنعم الصاوي عندما كان وكيلا أول لوزارة الثقافة مشروعا لسياسة ثقافية، وجدت طريقها للتنفيذ عندما تولى الوزارة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ثم فاروق حسني عندما تولى وزارة الثقافة في عام 1987، ثم في سنة 1998 وقد صدرت في كتاب بعنوان "الثقافة ضوء يسطع في سماء الوطن"، أعقبها بخطة ثانية عام 2003، باسم "الثقافة بنية وتوجه".
السمه الغالبة على السياسة الثقافية التى يقدمها رجال الدولة هى سياسة ثقافية
لخدمة الدولة، عكس المفهوم المتداول الأن بعد الثورة والذى يتبناه المثقفون وهو سياسة
ثقافية لكل المصريين. فى كتاب أزمة المثقفين لمحمد حسنين هيكل والذى نستطيع بكل ثقة
أن نعتبره العقل المنظر والضمير الواعي لنظام يوليو من جمال عبد الناصر الى السادات،
أتهم المثقفين بالنخبوية وابتعادهم عن الشارع والواقع فى مقابل المسئولية التاريخية
التى حمل عبئها الضباط الأحرار. لقد ظلت مسئولية رسم السياسات الثقافية في مصر منذ
الستينات تقتصر على الوزير المسؤول عن الثقافة، وربما على حلقة ضيقة من الخبراء والمسئولين
في القطاع الحكومي. يمثل هذا أكبر انتقاد لها ويثبت بما لا يدع للشك أنها سياسة ثقافية
لخدمة الدولة. أول طرح لرؤية ثقافية مغايرة كانت فى مشروع الفنان عادل السيوى
" تحرير المجلس الأعلى للثقافة من سلطة الوزارة وإعادة هيكلته كمجلس مستقل"
قبل ثورة 25 يناير، وثاني مشروع جاد قام به : أحمد إسماعيل (مخرج مسرحي)، حمدي الجزار
(قاص وروائي) رفعت سلام (شاعر)، عز الدين نجيب
(فنان وناقد تشكيلي)" وهو الدستور الثقافى 2011 بعد الثورة.
يذكر ثروت عكاشة مصطلح السياسة الثقافية فى مذكراته "فى الفن والثقافة"
باعتباره مفهوم جديد يتداوله اليونسكو كبديل عن الحديث عن مفهوم الثقافة الذى لا يملك
احد تعريفه بشكل محدد. أما فاروق حسنى فيتحدث فى كتابه عن السياسة الثقافية بشكل إنشائي
عن أمال وطموحات وليس عن أليات واستراتيجيات.
أن الحديث عن سياسات ثقافية يعني جملة من الغايات ذات المدى البعيد, ومن الأهداف
ذات المدى المتوسط, ومن وسائل ,وأشخاص, واعتمادات مالية, وترتيبات قانونية منسجمة مع
بعضها البعض, وسواء تعلق الأمر بالدولة أو بمؤسسة, فإن من يقرر العناصر المختلفة لهذه
المنظومة ليس الأشخاص أنفسهم, بل شراكه بين العاملين فى المؤسسات الثقافية
الحكومية والمستقلة. والسياسات الثقافية سواء تم إعدادها بطريقة ديمقراطية أو بطريقة
تكنوقراطية, يجب أن تتضمن دائما أدوات لتقييم النتائج من أجل إعادة النظر في الغايات
والأهداف والأدوات.
عدم وجود سياسة ثقافية بهذا المفهوم يؤدى الى عشوائية فى اتخاذ القرار
No comments:
Post a Comment