رهاننا الدكتور



على قدر الشدة تأتى العزائم، وعلى قدر شدة جابر عصفور وزيرا للثقافة تأتى مقالات قويه تعارضه بدون الدخول فى ترهات سادت فى الآونة الأخيرة عند اختيار وزيرا للثقافة خلال الثلاث سنوات الفائتة. أخترت "رهان الدكتور" عنوانا للمقال وفى نيتى الرد على مقال أخر بنفس العنوان أثارني لكمية النفاق التى يمتلئ بها لجابر عصفور. ولكنى فكرت أنى  لن أزيد على ما يقال، فسجل سقطاته التى يرصدها عليه المثقفون يباهى الكتاب الأسود الذى كتبة مكرم عبيد فى حق مصطفى النحاس، رغم ذلك يلقى علينا أصدقائه وأحبائه قفاز ثقل المفكر الثقافى ليخرسوا ألسنتنا فى معارضة الوزير الحالى، الحقيقة أن هذه الفرية لها رد، فهو ليس أكثر من موظف كبير فى الدولة بتاريخ أكاديمي فى الجامعة وعدة كتب نقدية، فما يميزه حقا هو النفوذ الثقافى المتوغل فى مصر والوطن العربي. يذكرني دفاع أصدقائه بثقافة الرجل العالية التى تؤهله للمنصب، باحترام الكبير والأبوية المفرطة التى كان يكنها الكثيرون لمبارك عندما قامت عليه الثورة، نفس المنطق، قيم توارثناها تظهر لتخرس ألسنتنا وجهودنا للتغيير.
نحن لم نثر على مبارك لأنه قطع عنا المصروف فى تصرف أبوى، بل لأن نظامه فاسد ونحن نرفض جابر عصفور ليس فقط لأنه أحد رجالات دولة مبارك الفاسدة، بل لأننا لا نريد العودة للحظيرة فى ثوبها الجديد. نحن لا نستحق نكأ جراح الثورة، صورة التشكيل الوزاري تخرج لسانها لنا والحكومة الجديدة بأكملها اليوم تصرخ فى وجهنا بكل عزمها: نعم الثورة فشلت.
ليس على طريقة رسائل للرئيس أو للوزير، سأناقش بعض المشاكل الجوهرية فى وزارة الثقافة والتى لن يقدر على حلها جابر عصفور لعدة أسباب أهمها أنه مهندس وجزء من الإشكاليات القائمة؛ فثمة قاعدة بسيطة تقول: " إنك لا تستطيع حل مشكلة باستخدام نفس الذهنية التي أنتجتها في البداية".
فاروق حسنى تعامل مع وزارة الثقافة كأنها مملكته الخاصة، فكبر وطور فى هيئاتها ومؤسساتها بشكل كبير، بغض النظر إنه بالسير بهذه الاستراتيجية أهمل بناء ثقافة حقيقية واهتم بالديكورات ولوحات الفن التشكيلى بدون إنتاج فعلى لمنتج ثقافى مؤثر يقدمه لشعب مصر، وبغض النظر أيضا عن استراتيجية تدجين المثقف والحظيرة التى سادت طول عهده، فنحن الأن أمام مشاكل وجود وليس مشاكل فاعلية.
مؤسسات وزارة الثقافة أصبحت مشغولة بمشاكل وجودها ذاتها وليس فاعلياتها. مشغولة بمشاكل الموظفين، المناصب والتعيينات والإدارات والمكافئات... الخ، مشغولة بالدعم والتمويل ومخصصات الدولة الهزيلة، مشغولة بتضارب المصالح والمهام المختلفة بينهم، مشغولة بتركيبة لجان الجوائز ولجان المجلس الأعلى ومجالس الإدارات، مشغولة بمقراتها وبسط الهيمنة على الأنشطة الثقافية والمؤتمرات الداخلية والخارجية.
مشاكل الوجود تلك تقف عائق أمام شخص يصف منهجه بالإصلاح من الداخل، وانا لا أعنى أن الحل فى المقابل يجب أن يكون ثوري وجذري ... ليس ضروريا، بل الضروري التفكير من خارج الصندوق وهو ما يعجز، بالتأكيد، عنه جابر.
من منا سيطرح فاعلية وجدوى وزارة الثقافة؟ هذا السؤال هو الطرح الأهم أمام المثقفون حين يحاسبون الوزير، ماذا فعلت عدد كذا من قصور وبيوت الثقافة فى المحافظات؟ وكيف أثرت وحركت المياه الراكدة لتخلصنا من المركزية المقيتة؟ هل الكتب بمختلف إصدارتها من الوزارة ساهمت فى صنع طفرة فى سوق النشر والكتاب أم دور النشر الخاصة والمستقلة تقوم بدور أكبر؟ هل قطاع الأنتاج أو صندوق التنمية الثقافية ساهم فى بناء كيانات ومشروعات ثقافية فعالة أم المراكز الأجنبية وجهات التمويل الدولية أكثر سخاء؟ هل سيكون جوائز المصرية فى الأبداع لها قيمة وتقدير عبر نزاهة التحكيم أم ستسحب قطر ودول البترودولار البساط وعليه ما طاب من  مبدعين مصر؟ .
هذا هو رهان الدكتور الحقيقى. ولكن جابر سيلجأ للمسكنات، سيبتكر طرق جديدة لتدجين المثقفين، لم يعد نشر الكتب كرشوات للمثقف الحظيرة يجدى، سيكون هناك دور أكبر لقطاع الأنتاج الثقافى وصندوق التنمية الثقافية وإغراءات أكبر ، لن تعد كثرة المؤتمرات الفارغة بالمجلس هى الحل، سيقام المؤتمر الثانى للمثقفين قريبا ! فى المجلس الأعلى للثقافة وسيكون على رأس منسقيه  المتهمين الرئيسين فى كوارث وحرائق الثقافة فى مصر!
 لم تعد فزاعة الإسلاميين والإخوان تجدى نفعا فى العهد السيساوى الجديد، النغمة التى سيلعب عليها جابر هى تهمه تمويلات المجتمع المدنى. مازال جابر يفكر بطريقة "وضع استراتيجية ثقافية لتغيير عقل الأمة"، بل الأدهى أنه يستخدم مصطلحات السلطة الجديدة ويحدثنا عن "عدالة ثقافية". صك مصطلح جديد ينافس به اليونسكو فى محاولاتها رسم سياسات ثقافية جديدة تناسب طبيعة كل دولة.
أكرر عجز الدكتور عن تقديم حلول لحال وزارة الثقافة الخربة ليس هو فقط اعتراضنا على تولية المنصب، فهذه المشاكل مزمنة تتطلب تفكيرا من خارج الصندوق وجابر عصفور هو الصندوق ذاته. رهاننا -وليس رهان الدكتور- هو إننا سنبدأ النضال لاكتساب حقوقنا الثقافية من المربع صفر وكأننا لم نقم بثورة.

No comments: